بقلم د. جاهين احمد صديق
فى بلادنا .. قليلا ما تمطر .. مرة أو مرتين كل عام ..
لذلك .. عندما تمطر السماء عندنا .. تفرح الارض بتلك اللحظات .. وتسعد بها الناس ..
وجمال المطر ليس في لحظة هطوله فقط .. بل قبل وأثناء وبعد هطوله .. له جمال فريد ..
فقبل هطوله .. تهب نسمات باردة .. تبعث السرور ..
وعندما يبدأ بالهطول .. تبتسم الأرض فرحا .. وهو يجري فيها ويسعد كل من عليها ..
وعندما يتوقف المطر .. يترك عطره الفواح .. ليملأ الجو بعبيره ..
وكما للمطر صوت ورائحة .. فللذكريات أيضا صوت ورائحة ..
ف “هى ” كانت ترتبط بالمطر .. بذكريات سعيدة ..
كنا ننتظر المطر بشغف .. وعندما تسقط أول قطرة مطر .. على الأرض الجافة والحارة ..
تسرع لتوقظ اطفالنا .. وتصعد بهم الى الدور العلوى المكشوف ” الرووف” .. حافية اقدامهم ..
وما إن تبدأ زخات المطر تتساقط .. حتى تهرول ..
لتمرح معهم ببراءة .. وتلعب بينهم بسرور .. وتبتل معهم بجنون ..
وتفتح فمها .. فتتسرب قطرات المطر إلى أعماقها .. وتمتزج مع روحها النقية ..
وكانت تشعر أن لقطرات المطر .. نبض و إحساس .. فهي مثلنا ترتعش من الفرحة ..
وتتسابق مع اطفالنا لإحضار وعاء ..ليجمعوا فيه المطر .. ويحتفظوا فيه بماءه البكر الطاهر ..
وتردد معهم أناشيد المطر الجميلة .. متناسين كل شيء حولهم .. ليعيشوا لحظات هطول المطر بكل سعادة ..
كانت حريصة كل الحرص … على توثيق تلك اللحظات السعيدة .. فى ذاكرتهم البريئة .
وبالبرغم من أرتباط نزول المطر عند الكثير .. بأنه الخير والرحمة و العطاء الإلهي بالخيرات و النعم..
الا ان المطر.. يثير عندى حنيناً شجنا .. لأيام مضت ولن تعود ..
وأصبح صوت المطر عندى .. رسول الحنين .. وكأنها تبعث الىً برسالة :
” أومازلت تنسى ذكراى .. بين مشاغلك وبين هموم الحياة “
واليوم …
عادت تمطر من جديد .. وأعلم بأنها لحظات اللقاء والتواصل بين الارض والسماء .. ويستحب فيها الدعاء ..
فرفعت يديً إلى السماء وبدأت بمناجاة رب العالمين .. خاشعا .. طامعا فى الاستجابة ..
” اللهم صيبا نافعا “.. ودعوت لها ولوالدىّ بالرحمات ..
ودموعى تحجم عن النزول .. في حضور قطرات المطر التى تنوب عنها ..
واثناء دعائى .. نظرت الى ابواب السماء المفتوحة .. وهى تغدق على العباد بالخيرات ..
فازداد رجائى وطمعى .. من الجًواد الكريم .. وتجرأت فى سؤالى :
ترى .. هل سيبلل هذا المطر .. القبور فى بلادنا ؟
ماذا لو ايقظت المقابر ساكنيها .. ليفركوا أعينهم .. مستمتعين بصوت ورائحة المطر ؟؟
هل سيكون مثواها .. رحيما عليها ويوقظها .. كما كانت تفعل مع اطفالها ؟؟
ماذا لو أيقظها مثواها – وهى هناك حافية القدمين – .. لتستمتع بمشهد الهطول في لحظات قصيرة .. مستقطعة من رقادها الطويل؟
ماذا لو استيقظت الان .. والسماء تنهمر.. و انا اقف بجوار مثواها .. اسرد عليها الذكريات .. و نشم رائحه المطر سويا .. وأقص عليها ماصرت – وأطفالها – اليه من بعدها .. فى عشر سنوات كاملة ؟؟
ماذا لو عادت لتأخذ بعض الحكايات .. ثم تعود لرقادها وحيدة ..؟؟؟؟؟
ثم انتبهت .. وادركت ما كنت فيه .. فرفعت رأسى الى السماء مستغفرا :
” سبحانك اللهم وبحمدك .. أشهد ألا اله الا أنت .. أستغفرك وأتوب اليك “
وفوجئت بوجهها .. ينساب من بين سحائب الخير ..
ليملأ صفحة السماء بنضرته وبهائه .. بعينيها المبتسمتين كعادتها ..
وغلبتنى دموعى فانسابت وإندمجت مع قطرات المطر ..
وكانت تنظر لى .. وكأنها تريد ان تحدثنى ..
ومع أننى أعلم أنهم لا يتكلمون .. ولكنى قرأت من عينيها ما أرادت أن تقول :
” أعلم انك كثيرا ماتنسانى .. ولكن رجائى أن تذكرنى أثناء تساقط المطر ..
فأنت تعلم كم كان يلهمنى .. كما ألهمتنى أنت ..
و ادعو الله لي كثيراً …
ولا أحب أن أرى دموعك مرة اخرى .. عش واستمتع بالحياة وتذكرنى بابتسامة ..
فالراحلون لا يسعدهم البكاء .. بقدر ما تسعدهم إبتسامة أحبائهم ..
وإن غابت ذكراى عنك فى زخم الحياة .. فسوف يحييها غدا صوت المطر من جديد ” .
وظللت محدقا فى السماء .. مبتسما لها .. حتى ودعتنى .. وعاودت غيابها ..
واشتدت زخات المطر وهى تسقط علىّ .. ك حبات اللؤلؤ وهى تدلك وجهي ..
فمحت مابقي من ألم .. ولكن يبقى فى صدري بعضا من شجن .. لذكريات تزاحمت بين ايام العمر .
وهاهو المطر يعود .. ككل شئ يعود ..
ولكن تظل هناك اشياء لن تعود .. حتى وإن عاد المطر .
اللهم يا ذا الرحمة الواسعة … إنها بين يديك .. مشتاقة الى مطر عفوك .. وانت أعلم بحالها وألطف بها من خلقك ..
اللهم إنى اسألك .. مع كل قطرة مطر ..
أن تبلغها مأمنها .. وأن تبين لها بديع كرمك .. وأن تذيقها معاني إحسانك ..
اللهم انزل عليها سحائب رحمتك ..
وأمطر عليها المغفرة … وأسقها الغيث برحمتك يا أرحم الرحمين …
” غيداء ” – عشر سنوات .